شيخوخة الضمير
فجر الضمير :
لم يكن جيمس هنري بريستيد (صاحب كتاب فجر الضمير) يتخيل أن المصري سينتقل هذه النقلة من صانع مبكرللضمير الإنساني (منذ أربعة آلاف سنة قبل الميلاد) إلى ذلك الإنسان الذي عكس تركيبته القيمية تقرير صريح وشجاع وصادم (في آن) يصف الخريطة القيمية الأحدث في حياة المصري 2009 م . فقد عرف بريستيد أن المصري القديم كان لديه استشعارا خلقيا دقيقا ويقظا وحساسا يجعله يستحسن الحسن ويستقبح القبيح ,
وقد أورد هذه الصفة في كتابه على لسان شاعر مصري قديم فيما يعرف باسم "أغنية الضارب على العود" (فجر الضمير , الهيئة المصرية العامة للكتاب , 1999 م , صفحة 184-186) ,
فمثلا حين ينظر المصري القديم إلى أخطائه فيستنكرها في مقطع بعنوان "إن اسمي ممقوت" :
انظر إن اسمي ممقوت , أكثر من رائحة الطير في أيام الصيف عندما تكون السماء حارة
أنظر إن اسمي ممقوت أكثر من مقت مصايد السمك في يوم صيد تكون فيه السماء حارة
أنظر إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الطيور فوق تل الصفصاف المملوء بالأوز
أنظر إن اسمي ممقوت أكثر من رائحة الصيادين على شواطئ المستنقعات بعد الصيد
ثم حين يرى فساد الناس ويستنكره بنفس اليقظة والشجاعة يقول :
لمن أتكلم اليوم ؟ فالرجل المهذب يهلك والصفيق الوجه يذهب في كل مكان
لمن أتكلم اليوم ؟ فإن سمح الوجه قد صار بائسا وصار الخيّر لا يحفل به في أي مكان
لمن أتكلم اليوم ؟ فإن الذي كان يظن أنه يثير الغضب بأخلاقه الشريرة , يسر منه الناس جميعا رغم أن خطيئته فظيعة
لمن أتكلم اليوم . فإن الناس يسرقون , وكل إنسان يغتصب متاع جاره
لمن أتكلم اليوم ؟ فإن الخائن صار أمينا , ولكن الأخ الذي يأتي بها (يعني الأمانة) يصير عدوا
لمن أتكلم اليوم ؟ لا يوجد رجل عادل
وقد تركت الأرض لأولئك الذين يرتكبون الظلم
توحي كلمات الشاعر المصري القديم باستنكار لتغير المنظومة القيمية للمصريين في العهد الإقطاعي 2000 سنة ق.م , وتوحي بأنه كان ثمة منظومة قيمية أرقى عاشها الشاعر أو سمع أو قرأ عنها ويقيس عليها ما يراه في عهده الذي تحكم فيه أصحاب الثروة والسلطة (الإقطاعيون والحكام) في كل شئ فأفسدوا على الناس حياتهم وقيمهم . وإذا عدنا من خلال كتاب فجر الضمير إلى ذلك القانون الأخلاقي قبل الفترة التي عاشها وعانى منها الشاعر سنجد فخرا واهتماما وتمسكا بالأخلاق الحسنة كالصدق والأمانة وحب الآخرين ورعاية الوالدين والإحسان إلى الجار والعناية بالضعيف والحفاظ على نظافة مياه النيل والعمل الجاد والصبر والرضى والعدل والمساواة والرحمة والتسامح .
من فجر الضمير إلى عصر التقرير :
لايملك أي منصف إلا أن يشكر الذين ساهموا في صدور هذا التقرير الهام بهذه الدرجة من المصداقية والموضوعية على الرغم مما قد يواجهوه من متاعب بسبب صراحة التقرير وخطورته ودلالاته , وهذا أمر يحسب لوزارة التنمية الإدارية ووزيرها الشاب أحمد درويش وللفريق البحثي المتميز الذي قاده عالم أكاديمي محايد وموضوعي هو الأستاذ الدكتور أحمد زايد العميد السابق لكلية الآداب جامعة القاهرة وفريق البحث الذي عمل معه .
والبحث العلمي لأي ظاهرة يبدأ بالملاحظة الفردية أو الجماعية , وهذه الملاحظة تولد انطباعات معينة يتم اختبارها من خلال استخدام أدوات موضوعية للبحث تطبق على عينة ممن يراد دراسة الظاهرة فيهم , وحين يتم الحصول على أرقام يتم معالجتها إحصائيا للوقوف على مدى أهميتها ودلالاتها الإحصائية . كل هذا قد تم وخرجت لنا بيانات وأرقام تحولت إلى معلومات عن سلوك المصريين وآرائهم واتجاهاتهم , وبقي جزء هام وهو التعامل مع تلك المعلومات والإستفادة منها في التخطيط السياسي والإجتماعي والثقافي والديني بهدف الإرتقاء بهذا المجتمع وليس بهدف معايرته بنقائصه وآفاته أو التشفي في أحد بسبب تلك النتائج فالجميع يتحملون نتائج ما ظهر في هذا التقرير حكاما ومحكومين .
وتكمن أهمية هذا التقرير في التالي :
1 – أنه صدر عن هيئة حكومية هي وزارة التنمية الإدارية , وليس عن جهة معارضة يمكن أن يتهمها أحد بمحاولة تشويه الواقع لصالح قوى بعينها .
2 – أنه أول دراسة موضوعية – على حد علمي – ترصد التغيرات في قيم المصريين بهذا الشمول وبهذه الشجاعة
3 – أنه اخترق حاجز استطلاعات الرأي , تلك الإستطلاعات التي يصعب إجراءها لأسباب سياسية وأمنية عديدة .
3 – أنه غطى ثلاث محافظات مصرية وشمل 2000 شخص من مختلف المستويات , وهذا يعطيه مصداقية علمية معقولة ويسمح بتعميم نتائجه .
4 – أنه يعكس بالأرقام ما كان يبديه المفكرون والمصلحون من ملاحظات حول تغير سلوك المصريين في السنوات الأخيرة وتدهور ميزان القيم بدرجة ملفتة للنظر , وكان يرد عيهم أصحاب المصالح بأنهم يبالغون في التشاؤم وأن الشعب المصري مازال بخير وأن الرشوة والمحسوبية والجريمة والكذب هي آفات موجودة في كل المجتمعات منذ خلق الله البشر.
5 – أن هذا التقرير طبقا لما صرح به الأستاذ محمد ناصر فؤاد – المتحدث باسم وزير التنمية الإدارية - يمثل جميع أنماط المجتمع "الأمى والمتعلم، الريف والحضر والشباب من سن 18 سنة إلى 34 سنة "وتلك العينة خضعت للبحث العلمى المنهجى الوارد لنسبة خطأ 2% إلى 3% وهى النسبة المسموح بها فى الأبحاث العلمية.
6 – أنه في حالة أخذه على محمل الجد – يجب أن يشكل ضوءا أحمر نتوقف عنده جميعا ونجري مراجعة شاملة لكل جوانب حياتنا ونبحث عن الأسباب التي أودت بنا إلى هذا المنحدر القيمي الخطير الذي يهدد حياتنا ومستقبلنا .
7 – أنه وضع رأي الناس في الإعتبار وهذا متغير إيجابي جديد في المسلك الرسمي الذي ظل سنوات طويلة لا يعطي لرأي الناس وزنا .
8 – أنه يعطي القدوة لبقية المجتمعات العربية حولنا أن تواجه ظواهرها وآفاتها الإجتماعية بنفس الشجاعة .
خريطة القيم لدى المصريين(طبقا لنتائج الدراسة مع الإختصار) :
كانت الدراسة (تحت عنوان : الأطر الأخلاقية الحاكمة لسلوك المصريين) التي أصدرتها وزارة التنمية الإدارية بتاريخ 12\10\2009 م تتحسس قيم الوضوح والنزاهة والشفافية والصدق والفساد لدى المصريين كما تتحسس رأي الناس في الأداء الحكومي , وفيما يلي نستعرض بعض نتائجها :
كشفت الدراسة عن وجود إحساس مرتفع بالظلم داخل المجتمع المصرى، وهو ما أكده ما يقرب من نصف العينة بنسبة ٤٩.٧٪ وصفوا أنفسهم أن «حقهم مهضوم»، كان أكثرهم من أهل الريف بنسبة ٥٠.٢٪، كما أوضحت النتائج أن هناك ٤٦.٤٪ من أفراد العينة تعرضوا للظلم، كان المسؤول عنه بنسبة ٣٢.٧٪ أحد المسؤولين الحكوميين.
وحول أسباب التغيير فى المنظومة الأخلاقية فى المجتمع المصرى، رجح أغلب أفراد العينة أن المشكلات الاقتصادية التى تعيشها مصر الآن من الأسباب القوية لتغير أخلاق الناس، وأكد ٨٠.٥٪ من العينة أن الأزمة الاقتصادية أحد هذه الأسباب، بينما جاء ضعف الوازع الدينى فى المرتبة الثانية بنسبة ٢٦.٣٪، يليه التفكك الأسرى.
وأظهرت الدراسة أن ٤٩.٦٪ من العينة لا يثقون فى الحكومة نتيجة عدم وفائها بالتزاماتها، وعدم اهتمامها بالفقراء وانحيازها إلى رجال الأعمال وعدم تصديها للفساد، بينما يرى ٦١٪ أن أفعال الحكومة لا تشجع على الثقة فيها، وأكد ٧٨٪ أن التصريحات الحكومية تتنافى مع القرارات والأفعال، ودللوا على ذلك بارتفاع نسبة الفقر والفشل فى مواجهة البطالة وعدم مصداقية وسائل الإعلام الحكومية.
وكشف ٨٧.٤٪ من العينة عن سيطرة الواسطة والمحسوبية خلال السنوات الخمس الأخيرة وقال ٨٩.٧٪ إنهم لا يستطيعون قضاء مصالحهم بدون اللجوء إلى الواسطة، وأكد ٤٢.١٪ استخدامهم الواسطة لحل مشكلاتهم مع الأجهزة الحكومية وأن ٢٦.٤٪ دفعوا رشاوى لإنهاء مصالح حكومية، وأبدى ١٣.٩٪ قناعتهم بضرورة دفع رشاوى . ويرى ٥٥.٨٪ أن أكثر الأماكن التى تستخدم الواسطة هى أقسام الشرطة والمرور والضرائب، فيما جاءت الهيئة القضائية فى المرتبة الأخيرة بنسبة ٥.١٪.
وعلى الرغم من كل النتائج السابقة وظلالها السلبية اتفق غالبية المشاركين في الدراسة على نقد الظلم والفساد، والتأكيد على الروابط الوطنية ورفض التمييز على أساس دينى ٩٢.٨٪.
كما أشارت الدراسة إلى رفض السلوكيات الخاطئة التى تمثل عدم الاتساق والتناقض.
وحددت الدراسة ٤ قيم أساسية لقياس مدى انتشار الشفافية فى المجتمع المصرى، جاءت قيمة المسؤولية فى مقدمتها، تلتها قيم الوضوح والصدق والثقة، كما فرقت بين وجود تلك القيم لدى المواطنين، وضرورة وجودها لدى الحكومات والدول بشكل مباشر، أوضحت الدراسة أن توافر قيم الوضوح والصدق والثقة عند الشعوب يعطى أرضا خصبة لنموها وانتشارها، أو على الأقل المطالبة بها من قبل المواطنين.
أظهرت نتائج الدراسة اختفاء قيمة الوضوح لدى ٨٠٪ تقريبا من عينة البحث، وكانت أسرار الأسرة فى مقدمة الأشياء التى لا يفصح عنها أبدا بنسبة ٩٣.٤٪، بينما احتلت أسرار العمل المرتبة الثانية بقارق كبير، وأكد ٣٣٪ من العينة حرصهم على عدم الافصاح عن أسرار العمل.
وكشفت الدراسة عن اتجاه المصريين للغموض وعدم الإفصاح فى الأمور المتعلقة بالمكسب والخسارة فى عالم المال، كما أكد ٧٨٪ من عينة الدراسة عدم ميلهم للافصاح عن عيوبهم أمام الآخرين، وهو ما اعتبرته الدراسة مؤشراً لعدم الثقة فى الآخرين بسبب استغلالهم لجوانب النقص ضد مصلحة الشخص.
اللافت أن نسبة المصارحة كانت أعلى لدى الريفيين، بينما انخفضت بين الحضريين إلى ٢٠٪، كما ارتفعت فى الذكور عن الإناث بفارق ١٠٪ تقريباً، وأكدت الدراسة أن القدرة على المصارحة والوضوح تنخفض بشكل عكسى مع ارتفاع مستوى التعليم، وبلغت أعلى معدلاتها بنسبة ٢٤٪ عنند الأميين، وانخفضت إلى ١٩٪ عند الذين تلقوا تعليما أعلى من الثانوى.
ورغم تفضيل عينة البحث عدم الإفصاح بشكل عام إلا أن الدراسة كشفت تراجع هذا التفضيل فى حالة طلب الجهات الحكومية للبيانات، وخصوصا عن الأسرة، وأبدى ٩٤٪ من العينة استعدادهم للإدلاء ببياناتهم كاملة، وهو ما عكس وجود حالة من التناقض بين تفضيل الإفصاح وتفضيل الغموض، فيما يتعلق بأسرار الأسرة، والخضوع لحالة الإفصاح الإجبارى، إلا أن السرية المتعلقة بالوضع المالى ظلت محتفظة بمكانتها، وحصلت على أولوية عدم الإفصاح فى حالة طلب الجهات الحكومية البيانات السرية المتعلقة بالأسرة.
وأشارت البيانات إلى ميل غالبية عينة الدراسة بنسبة ٧٣٪ إلى نصح زميل العمل فى حالة إفشائه الأسرار، بينما يفضل ١٩٪ إبلاغ الرؤساء، وجاءت نسبة سكان الحضر أعلى فى حالة إبلاغ الرئيس عن سكان الريف.
وعن رؤية المصريين حول مدى وضوح المسؤولين الحكوميين، أشارت عينة الدراسة إلى عدم الثقة فى تصريحات المسؤولين الحكوميين، حيث أكد ٤٣٪ منهم أن المسؤولين لا يتحدثون بصراحة، كما رأى ١٥.٥٪ أنهم بعيدون تماماً عن الصراحة فى أحاديثهم وتصريحاتهم.
وجاءت المعلومات الاقتصادية على رأس البيانات التى تخفيها الحكومة بنسبة ٥٢٪، يليها البيانات المتعلقة بالفساد بنسبة ٤٥٪، ثم البيانات المتعلقة بالأزمات والكوارث، كما كشفت الدراسة عن وجود بعض المعوقات الثقافية لدى المواطنين فى التعامل مع الحكومة الإلكترونية، وأشارت البيانات إلى أن ما يقرب من ثلثى العينة يفضلون استخراج وثائقهم الرسمية بالتعامل المباشر الذى يعطى قدراً من الاطمئنان للمواطنين.
وأشارت الدراسة إلى ارتباط الارتفاع في المستوى التعليمى بتراجع مجموعة من القيم، أثبتت أن نسبة الذين يضطرون إلى الكذب بين المتعلمين، تصل إلى ٦٥٪، بينما تبلغ بين الأميين ٤١٪ (وهذا يضع علامة استفهام كبيرة حول نوعية التعليم الحالي وجدواه وآثاره السلبية)، كما ترتفع هذه النسبة حسب انخفاض فئة العمر، حيث تبلغ ٥٧٪ بين الشباب، وتنخفض إلى ٤٧٪ بين من هم أكبر من ٥٤ سنة.
وأرجعت الدراسة أسباب الاضطرار لعدم قول الحقيقة إلى تجنب المشاكل، أو سعياً للأمان، وأكد ذلك وجود ١٦٪ فقط من عينة الدراسة يتعاملون بصدق مع الآخرين، بينما يلجأ ٧١٪ منهم إلى الكذب.
كما برر أكثر من ثلثى العينة موقفهم السلبى من الصدق بأنه بسبب مشكلات ويكون ضارا أحيانا، وجاءت مشكلة فقدان العلاقات الاجتماعية مع الآخرين فى مقدمة هذه المشكلات بنسبة ٨١٪، واعتبرت الدراسة ذلك إشارة إلى أن المجتمع لا يرحب بالصدق.
وعن قيمة المشاركة كشفت البيانات أن غالبية المصريين يرون أن الناس تتباعد عن بعضها وعن العمل الجماعى، وبلغت النسبة الأكبر ممن يؤكدون ذلك بين الريفيين بنسبة ٧٣٪، وبين الشباب بنسبة ٨٢٪، إلا أن المفارقة كانت أن ٧٦.٤٪ من عينية الدراسة أكدوا أنهم يفضلون العمل ضمن فريق.
وانتقدت عينة البحث طريقة عمل المسؤولين الحكوميين، فاعتبر ٦٨.٧٪ منهم أن كل مسؤول يعمل بمفرده، وأن المسؤولين لا يشكلون فريقا يعمل لتحقيق هدف متفق عليه، كما أوضحت الدراسة أن المصريين يقدرون العمل كفريق فى حالة المطالبة بالحقوق، حيث يفضل ٧٠٪ المطالبة بحقوقهم مع آخرين لهم نفس الحق.
وفى محاولة لقياس حجم المشاركة من خلال العضوية فى مؤسسات المجتمع، أظهرت الدراسة أن عضوية الأندية بين الحضريين تبلغ ٤ أضعاف العضوية بين الريفيين، أما عضوية الأحزاب فتزداد بين الريفيين، كما تنخفض بين الشباب بشكل ملحوظ ، وتصل بين الذكور ٦ أضعافها بين الإناث.
وعن رؤية المصريين للمشاركة الانتخابية جاءت نسبة ٨٠.٥٪ من عينة الدراسة، لتؤكد ضرورة مشاركة المواطنين فى الانتخابات مقابل ١٣٪ فقط يرون أن المشاركة غير ضرورية، وهو ما اعتبرته الدراسة متناقضاً مع السلوك التصويتى فى الانتخابات فى مصر، واعتبرتها الدراسة نتيجة إيجابية للاصلاحات السياسية التى أجرتها الدولة فى الفترة الأخيرة، وعلى رأسها اختيار رئيس الجمهورية بالانتخاب.
وفسر ٦٣٪ من الذين يرون أن هناك انخفاضاً فى مشاركة المصريين فى الانتخابات - موقفهم بسببين رئيسيين، أحدهما عدم مصداقية الحكومة وأرجع ٥٣.٤٪ عدم مشاركتهم إلى تزوير الانتخابات، بينما يرى ٩٪ هذا التراجع لضعف الأحزاب السياسية فى مصر.
وفيما احتلت قيمة الثقة أهمية خاصة بين مجموعة القيم الحاكمة للشفافية، أكدت البيانات أن غالبية عينة الدراسة يرون أن الثقة انخفضت خلال السنوات الخمس الماضية، وأرجعوا أسباب ذلك إلى الاهتمام بالمصلحة الشخصية أو فقدان الضمير، أو غياب الصدق وانتشار النفاق وفقدان الوازع الدينى.
واحتل الأقارب المرتبة الأولى بين الجماعات التى تتمتع بثقة المصريين بنسبة ٨٣٪، يليهم بفارق كبير الأصدقاء بنسبة ٢٧٪، ثم الجيران بنسبة ١٨.٤٪، كما جاء المسؤولون الحكوميون فى مقدمة من يشك فيهم المصريون بنسبة ٤٨٪، يليهم السياسيون بنسبة ٣٣٪، وتناولت الدراسة إنجازات الحكومة,
وجاءت الطرق والكبارى والأنفاق كأهم الإنجازات التى تحققت فى مصر خلال الـ١٠ سنوات الماضية، يليها إنشاء مستشفى سرطان الأطفال بنسبة ٣٧.٨٪ وتحسين البنية الصحية بنسبة ٢٦.١٪، و١٩٪ اعتبروا أن هناك تطويراً فى التعليم كأحد الإنجازات، بينما رفض ١٧٪ من أفراد العينة وجود أى إنجازات.
وعلى غير الطبيعى، أثبتت الدراسة أن التعليم فى مصر ساهم فى دعم القيم السلبية المؤدية إلى الفساد فى المجتمع، كان المتعلمون خاصة فئة الحاصلين على مؤهلات عليا، أكثر وضوحاً فى التعبير عن انتشار المحسوبية بنسبة ٨٧.٥٪، مقابل ٧٧.٦٪ للأميين، وهو ما اعتبرته الدراسة مؤشراً على أن متغير التعليم أثر سلباً على مؤشرات التعامل مع الفساد فى المجتمع.
أوضحت نتائج الدراسة أسباب التناقض بين القول والفعل فى سلوك المصريين، وعلى رأسها انتشار الكذب والنفاق، يليه الخوف على المصلحة الشخصية، ثم الفهلوة والكسب السريع، فالخيانة وعكست هذه النتيجة وجود تصورات سلبية فى المجتمع المصرى بسبب انتشار التناقض بين القول والفعل فى السلوكيات، وحصل رجال السياسة والشرطة الذين وصفتهم الدراسة بأنهم أكثر الأفراد نفوذاً فى المجتمع والأكثر تأثيراً على حياة الناس، على المرتبة الأولى فى التناقض بين القول والفعل،
كما تساءلت الدراسة عن احتلال رجال الدين للمرتبة الثالثة فى التناقض، فى الوقت الذى يفترض فيه أن التدين والإيمان من أكثر الفضائل التى أكد أفراد العينة توافرها فى المصريين، وفسرت العينة هذه النتيجة بأن تدين رجال الدين شكلى ومظهرى بنسبة ٨٤.٩٪.
وأظهرت الدراسة أن أسباب تفضيل المصريين لاختيار العمل الحكومى ترجع إلى الحصول على راتب كبير يعلى من مكانة الشخص بنسبة ٤٣.٥٪، ويخلق وضعاً محترماً بين الناس بنسبة ٣١.١٪، ووزعت النسب الباقية بين مواعيد العمل المناسبة والإجازات الكثيرة والتكسب منه.
كما أجمع أكثر من نصف العينة على أن أولى المشكلات التى تواجههم فى التعامل مع القطاع الحكومى هى الروتين وتعقد الإجراءات البيروقراطية، تليها مشكلة عدم إنجاز معاملاتهم، وسوء معاملة الموظفين، ودفع رسوم غير منطقية، وجاء غياب الموظفين عن العمل فى المرتبة الأخيرة.
وعن الفئات الأكثر جدية فى المجتمع احتل موظفو الحكومة المرتبة الأخيرة بنسبة ١٥.٩٪، بالتساوى تقريباً مع التجار، وعكست هذه النتيجة ـ حسب الدراسة ـ الصورة السيئة عن الموظف الحكومى فى أذهان المصريين، نتيجة معاناتهم مع الجهاز الحكومى، واحتل العمل اليدوى المتمثل فى الفلاحين المرتبة الأولى بين الفئات الأكثر جدية فى العمل بنسبة ٨١٪، ثم الحرفيون ٦٢.١٪ والعمال ٥٤٪، مما يؤكد سيطرة قيم العمل اليدوى على العمل والإنجاز، رغم التطور الذى يحدث للمجتمع.
وأظهرت الدراسة استمرار انحياز المجتمع إلى الذكور، ويرى ٦٠٪ من العينة أن الذكور أكثر جدية من الإناث فى العمل، بشكل يتسق مع نظرة المجتمع الشرقى للمرأة.
حاولت الدراسة فى ختام بحثها أن تعرض نظرة عامة للقيم الحاكمة للفساد فى المجتمع المصرى، فأظهرت النتائج إدراك المصريين لانتشار المحسوبية وزيادتها، وعلى الرغم من ذلك فإنهم يقبلونها فى الممارسة الفعلية طالما حققت بعض النفع الشخصى لهم، كما أوضح التحليل أن المصريين يميلون إلى تفضيل المصلحة الشخصية على المصلحة العامة بنسبة كبيرة على الرغم من رفضهم لبعض المواقف التى تواجههم بذلك، وظهر التناقض واضحاً فى حديث العينة عن الإنجاز كقيمة مثالية وإيجابية، إلا أنهم أقرنوها بتحقيق بعض المنافع الشخصية.
كما أشارت البيانات إلى أن القيم الحاكمة للفساد بشكل عام تنتشر بشكل مرتفع جداً فى المناطق الحضرية أكثر من الريفية، ووضعت الدراسة علامات استفهام حول تعامل المجتمع المصرى بعدم اهتمام مع تحول قيمة الإنجاز إلى قيمة سلبية فى ظل وجود وانتشار الواسطة والمحسوبية والظلم.
واهتمت الدراسة بإبراز نتيجة مهمة توصلت إليها، أظهرتها النتائج كانت ميل الشباب بشكل لافت إلى الفساد واعتبارهم أكثر فئات المجتمع استخداماً له، وجاءت العينات لتؤكد أن ٩٢.٧٪ من الشباب يلجأون للواسطة فى إنهاء مصالحهم و٢٨٪ منهم يدفعون الرشاوى، و٥٣٪ منهم يفضلون المصلحة الخاصة على العامة.
وتبدو أهم الملاحظات التى أظهرتها الدراسة أن الرجال أكثر مقاومة للفساد من الإناث، وأن عينة البحث أكدت أن الرجال كانوا أكثر ميلاً لتغليب المصلحة العامة، بينما تراجعت نسب الإناث المشاركة فى القضايا المجتمعية بنسبة ٤٧٪.
واختلفت رؤية الذكور والإناث فيما يتعلق بجدية العمل حيث ترى الإناث أنهن أكثر جدية من الرجال بنسبة ٣١٪ مقابل ٢٠.٥٪ للذكور.
دلالات النتائج :
قد ينظر البعض إلى تلك النتائج على أنها مزعجة ومخيفة ومزلزلة وصادمة , وأنها تشير بالأرقام إلى انهيار منظومة القيم في المجتمع وأن أي مجتمع يفقد ضميره يصبح معرضا للإنهيار إن آجلا أو عاجلا . وقد يرى البعض الآخر (من المهونين الحكوميين) أننا نتعامل مع بشر وليس مع ملائكة وأن النتائج واقعية في كونها تصف أناس لديهم خليط من القيم السلبية والإيجابية حتى على الرغم من سيادة القيم السلبية وارتفاع وتيرتها . وقد يقول فريق ثالث بأننا لسنا بدعا من الناس فالفساد قد انتشرت معدلاته ومؤشراته عالميا , وأننا لو طبقنا هذا الإستبيان على مجتمعات أخرى لربما وجدنا نتائج متقاربة , وأننا لكي نجزم بأننا في أزمة يجب أن نقارن تلك النتائج بمجتمعات أخرى لنرى بشكل علمي أين نحن من بقية العالم . هذا سجال نظري قد يحدث وقد يؤدي إلى تمييع القضية وصرف الأنظار عن نتائج تلك الدراسة الهامة لصالح ترسيخ الأمر الواقع والرضا بما هو كائن .
وهنا يجب أن نعود مرة أخرى إلى قراءة الواقع المصري من جوانبه المرئية رأي العين والتي لا تحتاج لدراسات وأبحاث وأرقام وإنما تحتاج لعيون مفتوحة وعقول واعية وقلوب نظيفة لتدرك حجم المعاناة لدى المواطن المصري بسبب الفقر الذي يعيش تحت خطه 44% من المصريين , وذلك التعليم الذي لا ينكر أحد تدهوره , وتلك الخدمات الصحية التي تتراجع يوما بعد يوم , وذلك الوضع السياسي الفريد الذي تجمد مكانه ورفض التغيير . والأمر لا يحتاج لعمل دراسات مقارنة مع المجتمعات الأخرى بل قد يحتاج فقط لزيارة أي دولة عربية أو أجنبية ليرى الفروق واضحة بين جودة الحياة ومعدلات التنمية وتطور التعليم والصحة .
ومهما اختلفنا في قراءتنا للدراسة إلا أنها تعكس في النهاية خللا في الضمير العام , قد يسميه البعض ثقوبا في الضمير أو يسميه البعض الآخر تهتكا في الضمير أو يسميه فريق ثالث أزمة في الضمير العام , وكل من هذه الدرجات والتسميات تشكل عامل خطورة في حياة أي مجتمع تستدعي الإستنفار والمواجهة قبل فوات الأوان .
كيف يتكون الضمير (الفردي والعام) :
لا يعرف أحد أين يوجد الضمير فى الإنسان , أهو فى دماغه أم عقله أم قلبه أم روحه ؟ , بل لا يعرف أحد تعريف دقيق له غير أنه : ما تضمره فى نفسك ويصعب الوقوف عليه , فهو شئ خفى أشبه برادار يلتقط الإشارات ويصنفها أهى من جانب الخير أم من جانب الشر , أى أنه استعداد نفسى لإدراك الخبيث والطيب من الأعمال والأقوال والأفكار والتفرقة بينها , واستحسان الحسن واستقباح القبيح . وعلى الرغم من خفاء الضمير واختفائه , إلا أنه قوة إدراكية عظمى فى النفس البشرية , تتفحص الأقوال والأفكار والأعمال وتصل إلى جوهرها بعد تجاوز الألوان البراقة والأشكال الخادعة , وقد يحاول الإنسان فى ظروف ما أن يخدع ضميره بمبررات أو إيهامات أو إيحاءات كاذبة , وقد ينجح هذا لبعض الوقت , ولكن الضمير ينهض من سقطته ويخرج من كهف عميق فى النفس ليعلن الحقيقة ويمارس الوخز المستمر لصاحبه ليوقظه من غفلته ويخرجه من خداعه لنفسه أو لغيره , وهنا قد يضيق الإنسان ذرعا بالضمير , فيحاول قتله نهائيا بالتمادى فى الخداع والتقلب فى الملذات والولوغ فى الموبقات , وقد يموت الضمير فعلا , ولكن يموت معه القلب وتضيع معه بوصلة الإهتداء فيجرى الإنسان بلا وعى أو هدى خلف كل ناعق . وربما يكون الرسول صلى الله عليه وسلم قد قصد الإشارة إلى تلك القدرة الفطرية فى داخل النفس والتى تستطيع بشكل غامض التفرقة بين الخير والشر حين تتضارب الفتاوى والأقوال , فقال صلى الله عليه وسلم : "استفت قلبك وإن أفتوك وأفتوك " , ذلك الميزان الخفى العفى القابع فى أعماق النفس يوقظها ويوخزها ويهديها وسط الخطوط المتقاطعة والمتشابكة .
ولكي نعرف كيف يتكون الضمير العام علينا أن نعرف كيف يتكون الضمير الفردي الخاص , ذلك الضمير الذي يبدأ في مرحلة الطفولة المبكرة ويكون مجرد تقليد للأب والأم في سلوكهما فيتبنى الطفل أوامرهما ويتجنب نواهيهما ويعرف من خلال ذلك ماهو مسموح وما هو ممنوع وما هو مستحسن وماهو مستقبح . ثم يأتي وقت في الطفولة المتأخرة يستدمج فيه الطفل النظام الأخلاقي للوالدين (أو من يقوم مقامهما) ويصبح هذا النظام جزءا من تكوينه النفسي الذي يضبط سلوكه حتى في غياب الأبوين أو المربين عموما . ولكي ينجح الطفل في استدماج النظام الأخلاقي للوالدين والمربين لابد وأن يكون لديه قدر من الحب والإحترام لهما , وإن لم يوجد هذا القدر فإن احتمالات رفضه لنظامهم الأخلاقي ستكون كبيرة . وفي المراحل التالية من المراهقة والرشد تتم مراجعة الضمير الموروث المستدمج لإدخال تعديلات عليه أو تغييره أو استبدال بعض عناصره , وإن كانت الكثير من العناصر المستدمجة في طبقات النفس الأعمق تظل رابضة وفاعلة حتى دون وعي صاحبها . إذن فالأسرة هي منبت الضمير , والعلاقة بالوالدين تشكل أهم المؤثرات في تكوينه , وتعكس هذه الحقيقة نقوشا وكتابات وجدت في الآثار القديمة أوردها جيمس هنري بريستيد في كتابه "فجر الضمير" (إني لا أقول كذبا لأني كنت إنسانا محبوبا من والده ممدوحا من والدته حسن السلوك مع أخيه ودودا لأخته) , وأكدتها الأديان .
وعلى المستوى الأوسع في المجتمع يوجد ما يسمى بالضمير العام , وهو مفهوم واسع يتشكل من مجموع الضمائر الفردية , ومن عصارة التراث الديني والثقافي , ومن الدستور والقانون السائدين , ومن الأعراف والتقاليد الإجتماعية , ومن الخبرات الحياتية للمجتمع . هذا الضمير هو ميثاق غير مكتوب ولكنه مدرك بشكل عام , وهو الذي يحدد المستملح والمستقبح من السلوك , والمقبول والمرفوض , والعيب والخطأ والصح , ودواعي الفخر ودواعي الخجل , ومعايير النجاح والبطولة ومعايير الفشل والنذالة .
والضمير العام ليس ملائكيا مطلقا وإنما يغلب عليه المعايير الإيجابية للسلوك لأنه ينتمي إلى الأنا الأعلى في التركيبة النفسية (طبقا للمدرسة التحليلية) وينتمي لذات الوالد (طبقل لمدرسة التحليل التفاعلاتي لإريك برن) وينتمي للذات المثالية (طبقا لرؤية كارين هورني) . فالضمير العام يميل لأن يكون أخلاقيا ويميل لأن يكون مثاليا , وهو المسئول عن رعاية الثوابت في المجتمعات البشرية ورعاية القيم التي تحافظ على استمرار الحياة الآمنة المستقرة . ولذلك فإن المجتمعات البشرية تسعى للمحافظة عليه ليكون صمام أمان ضد مستويات أدنى في البشر وفي المجتمعات تسعى لأن تزيح هذا الضمير لتفسح المجال أمام نزوات ورغبات أنانية وشريرة وعدوانية .
وكما يشكل الأبوين مرجعية الضمير عند الطفل الصغير فإن النخبة في المجتمع تشكل مرجعية ذلك الضمير , ونعني هنا بالنخبة علماء الدين والمفكرين وقادة الرأي وفقهاء الددستور والقانون والمصلحين الإجتماعيين . وهؤلاء جميعا هم بمثابة حراس الضمير العام , ولذلك إذا خبا صوتهم وتراجع تأثيرهم فإن الضمير العام يضعف شيئا فشيئا إلى أن يتضعضع ويضمر وربما يموت . والقادة السياسيون والعسكريون ورجال الأمن لا يحسبون من حراس الضمير , فقد تحكمهم مصالح وأهواء تجعلهم يتمسكون بقيم براجماتية غير متوائمة مع الضمير العام , وهم إذ يفعلون ذلك لا يعلنون أنهم يتصادمون مع الضمير العام بل يتحايلون على ذلك وربما أظهروا ولاءهم واحترامهم ورعايتهم للضمير العام ولكنهم في سلوكهم الواقعي يعملون ضده . ولهذا حين تتضخم السلطة السياسية أو السلطة الأمنية في أي مجتمع وتتراجع السلطات الأخرى والقوى الأخرى في المجتمع فإن الضمير العام يتراجع وينكمش أو يتلوث لإرضاء احتياجات السلطة المتسلطة . ونحن هنا نفرق بين سلطة تنظم شئون المجتمع ولا يستغنى عنها في أي تجمع بشري وبين سلطة تتسلط على المجتمع وتتحكم فيه لمصالح ذاتية , فالأولى تهتم برعاية الضمير العام وتحافظ على روافده وتدعمه من خلال الدستور والقانون واحترام المؤسسة الدينية وتقدير رجال الفكر والقضاء , أما الثانية فهي ترى في الضمير العام عائقا أمام استمرارها ولهذا تقوض أركانه وتجفف منابعه فتعمد إلى احتواء المؤسسة الدينية واختراق المؤسسة التشريعة والسيطرة عليها , والتحكم في المؤسسة القضائية , وربما تسعى بوعي أو بدون وعي إلى توسيع الثقوب في الضمير العام لكي تستطيع أن تمرر خططها ومشروعاتها وأن تحتفظ بمكانها ومكانتها فتفسد المجتمع في الوقت الذي تدّعي فيه الإصلاح .
المناخ السياسي وأزمة الضمير العام :
لايستطيع أحد أن ينكر الدور الذي لعبه المناخ السياسي السائد بعد ثورة يوليو والذي تمحور حول الإستبداد في تلك التغيرات التي حدثت في الخريطة القيمية للمجتمع , إذ أفرزت الحكومات التسلطية حالة من الخوف والجبن لدى الناس ودفعتهم للنفاق والمداهنة والكذب واضطرتهم للرشوة والمحسوبية كي يواجهوا الظروف المعيشية الصعبة التي وضعتهم فيها .
كما أن النخبة السياسية في العقود الستة الأخيرة لم تكن قدوة للناس إذ مارست البطش والتزوير والتلفيق والكذب , ولم تعط الشعب الإحساس بالكرامة أو القيمة وتركته يحاول التقاط لقمة عيشه في ظروف غاية في الصعوبة وعلمته التنازل عن كرامته وحريته في مقابل أن يعيش هو وأبنائه بعيدا عن البطش والقهر .
وكانت معايير الإنتقاء للوظائف القيادية تمر عبر مؤسسات أمنية تعلي من قيمة الموالاة والثقة ولا تعطي أهمية كبيرة لنظافة الضمير أو معايير الجدارة والعلم والأداء , ولهذا تم تجريف المواقع القيادية من العناصر التي تصلح قدوة للمجتمع , وأصبحت الرسالة الواصلة للناس تقول بأن الوصول من نصيب الموالين والمصفقين والمزورين والمستسلمين والموافقين دائما , وأن قيم العمل والصدق والأمانة والمثابرة والإخلاص كلها لا تساوي توصية من مسئول أو ارتماءا في أحضان حزب أو مؤسسة سيادية .
وقد حدث جمود في الحالة السياسية امتد أكثر من ربع قرن لم تتغير فيه الوجوه أو السياسات فحدثت حالة من الشيخوخة السياسية , تصلبت فيها الشرايين وتيبست المفاصل وضعفت وتضعضعت الأعضاء وانتشرت العلل والأمراض وتسللت الميكروبات والفيروسات ونتج عنها الكثير من التداعيات السلبية وخاصة على المستوى القيمي , حيث يئس الناس من تبادل السلطة فراحوا يوفقون أوضاعهم حسب مزاج السلطة الأبدية القائمة وحاولوا أن يتكيفوا مع متطلباتها , وهنا كانوا مضطرين لإعادة صياغة منظوماتهم القيمية لتتناسب مع المناخ السائد وكانت النتيجة هي ما نراه في هذا التقرير من تشوهات نفسية واجتماعية . وهذا يتماشى مع القوانين الطبيعية من حيث أن الماء الراكد يفسد ويتعفن في حين يحتفظ الماء الجاري بنقائه وصفائه وتجدده , وربما هذا هو السبب في أن النظم الديموقراطية (الحقيقية) تضع حدودا زمنية للسلطة حتى تتفادى مثل هذه النتائج السلبية فتتجدد الوجوه والأفكار والخطط والسياسات وتندفع دماء جديدة من وقت لآخر وتتجدد معها شرايين الحياة .
دور التربية والتعليم في نتائج التقرير :
ليس من الصعب على أي مراقب موضوعي إرجاع تلك النتائج السلبية التي تمخض عنها التقرير إلى الأحوال المتردية للمدارس والجامعات والتعليم عموما في مصر , إذ أن هذه المؤسسات لم تعد تمارس دورا تربويا حقيقيا ولا دورا تعليميا مفيدا , بل على العكس فإن ما يدور بين أروقة المدارس والجامعات وما وصل إليه أخلاق المعلمين والأساتذة قد يكون عاملا مؤثرا في الإتجاه السلبي ويفسر لنا كثيرا من نتائج الدراسة . فلم تعد المدارس والجامعات تؤكد على الصدق كقيمة أو العمل الجاد أو المثابرة أو الأمانة , بل إن هذه المؤسسات قد تكون في بعض جوانبها مرتعا للغش والتزوير والوساطة والتوصيات والصعود بلا جهد وتلفيق النتائج وتسطيح المعلومات وتجهيل العقول وملأها بالتفاهات , وإلغاء ملكات التفكير وحشو الرؤس بما لا يفيد وإعطاء شهادات لاتفيد في سوق العمل .
ولا نستغرب عزوف التلاميذ عن المدارس والطلاب عن الجامعات وتوجههم إلى الدروس الخصوصية في البدرومات وفوق الأسطح لكي يكتسبوا مهارات اقتناص الدرجات بعيدا عن روح العلم وروح التربية , ثم تواطؤ أولياء الأمور في هذه المؤامرة التي يتفرج عليها أولي الأمر منذ سنوات ويقفون عاجزين عن عمل شئ يعيد التربية ويعيد التعليم إلى ما يجب أن يكونا عليه .
لقد افتقدنا ثقافة التعلم وأصبح همنا اقتناص الدرجات , ومن هنا صار للغش الفردي والجماعي سوقا رائجة واكتسب قدرا من المشروعية جعلت كثيرين من الطلاب وأولياء الأمور ونسبة غير قليلة من المشرفين على العملية التعليمية يتقبلونه ويقرونه بل ويشجعونه .
التدين الرسمي والتدين الشكلي :
قد تصيبنا الدهشة حين نرى المؤسسات الدينية الرسمية لدينا ولها أسماء عريقة وتاريخ أعرق , ونرى هذا العدد من علماء الدين الرسميين وخطباء المساجد , ونرى هذا العدد الكبير من دعاة الفضائيات الهواة والمحترفون ونرى هذا العدد من اللحى والحجاب والنقاب , وهذا العدد من البرامج الدينية والندوات والمحاضرات واللقاءات , ومع ذلك نصدم بهذا الخلل الهائل في الضمير العام . بعض المحللين يقولون بأن هذه المؤسسات والنشاطات الدينية قد قامت بدورها ولكن طوفان الفساد كان هائلا وكان أقوى منها , ويقول أصحاب هذا الرأي بأنه لولا موجات التدين لانهار المجتمع منذ زمن , أي أن النشاطات الدينية الرسمية وغير الرسمية قد شكلت وقاية للمجتمع من ىالإنهيار الكامل . ويرى فريق آخر أن المؤسسات الدينية الرسمية لم تعد تحظى بثقة الناس , وأن النشاطات الدينية غير الرسمية كانت معنية بشكل التدين دون جوهره , وأن حساباتها كانت تستوفى بعدد من يطلقون لحاهم أو يرتدون الحجاب أو النقاب , أما جوهر الإيمان وروح الدين فلم يفلحوا في ترسيخه في النفوس .
والرسالة الدينية القادمة من المصادر والتوجهات المختلفة تكاد تتفق على الإهتمام بالعقائد والعبادات , أما المعاملات والأخلاقيات والسلوكيات فلا تحظى بنفس القدر من الإهتمام بل نرى سلوكيات الدعاة الدينيين - في أغلبهم على الأقل – منافيا للقواعد السوية في السلوك . وبدلا من القيم المطلقة الراسخة القادمة من روح الدين وجوهره نرى الآن لدى نسبة قليلة من المتدينين نوع من الأخلاق النفعية السطحية القادمة من أطماع النفس والتي تتلون بصبغة دينية زائفة لتحقق مكاسب دنيوية من خلال اللعب على عنصر الثقة فيما هو ديني . وقد أدى هذا الموقف إلى فقد الثقة في الرموز الدينية وفي المتدينين وبهذا افتقد الناس مصدرا مهما من مصادر القدوة في حياتهم , وربما يبرر هذا لهم سقوطهم في مستنقع الإنتهازية الأخلاقية طالما أنهم رأو الرموز الدينية (بعضها أو كثير منها) قد سقط فيها .
وثمة أزمة خطيرة حدثت حين فقدت المؤسسات الدينية الرسمية جاذبيتها أو مصداقيتها لدى الناس فأعطوها ظهورهم وتوجهوا نحو الدعاة الجدد خارج الإطار الرسمي فتلقوا منهم رسائل متضاربة بعضها قد ينتمي إلى صحيح الدين وبعضها الآخر يعكس توجهات شخصية أو طائفية أو فئوية , وهنا تشرذم الناس ليلتفوا حول دكاكين دعوية مختلفة ومتضاربة ومتصارعة وكل منها يدّعي امتلاكه للحقيقة المطلقة .
التناقض بين الأقوال والأفعال :
كانت هناك تناقضات كثيرة بين الأرقام , وهذا يعكس الإضطرابات القيمية الناتجة عن رسائل متعاكسة يتلقاها الناس , فمثلا تأتي رسائل من مصادر دينية تحرم الكذب , بينما تأتي رسائل من مصادر حياتية براجماتية تبرر الكذب بل وتزينه , والصورة في مجملها تعكس فجوة كبيرة بين القيم المعلنة والقيم السائدة في المجتمع المصري , وبمعنى آخر إذا راجعنا الكثير من الأرقام في هذه الدراسة وقارناها بما نراه في حياتنا اليومية لأدركنا بوضوح الكثير من التناقض بين ما أعلنه الناس في إجاباتهم وبين ما يمارسونه , ولو أن الإستبيان المطبق به معايير للكذب والتناقض (كما هو الحال في اختبارات نفسية مثل اختبار الشخصية متعدد الأوجه) لظهر هذا الأمر بوضوح يدعو إلى التأمل والعجب . وهذا أمر آخر في الشخصية المصرية حيث تعلمت من عصور الإستبداد الطويلة أن تقول ما يرضي أصحاب السلطة وأن تفعل هي ما تريد خلسة . وهناك ما يسمى بإجابات المرغوبية الإجتماعية حيث يقول الناس ما يعتقدون أن الرأي العام يحب أن يسمعه , والمرغوبية الإجتماعية هنا لن تكون طول الوقت في صف التعبيرات البراقة اجتماعيا كالصدق والأمانة والشفافية والوضوح وإنما قد تكون في الجانب الآخر تأسيا بصحف المعارضة التي تنتقد الأوضاع ليلا ونهارا ويبدو محرروها أنهم أبطال أو مصلحون اجتماعيون , وهذا يجعل بعض المفحوصين يتكلمون نفس اللغة الإنتقادية تأسيا برموز المعارضة الصحفية , ويبقى في النهاية السلوك اليومي الملاحظ هو الحاكم على السلوك , ولهذا نتمنى أن تستكمل هذه الدراسة بدراسة أخرى لا تعتمد على الآراء بل تعتمد على الملاحظة الإحصائية المنضبطة للسلوك .
توصيات الدراسة :
انتهت الدراسة إلى رؤية متكاملة لصياغة الأطر الحاكمة للسلوك فى مصر، كان البند الأول فيها هو التغيير الشامل والعام الذى لا يعتمد على الترقيع أو التدخل فى أمور معينة دون الأخرى، وأن يكون مرتبطاً بإعادة صياغة النظام الاجتماعى العام، وشددت الدراسة على أهمية ربط القيم بالقانون والدستور وتوضيح العلاقة بينهما،
وطالبت بتفسير نصوص القانون والدستور بشكل يؤكد على الضرر الاجتماعى الناتج عن الانحراف عنها والإعلان عن محددات للسلوك تطبق على الجميع وتراقب من السلطات العليا والدنيا، حتى يتحول القانون إلى قيمة سلوكية وممارسة يومية.
ودعت الدراسة إلى اكتشاف قادة التغيير بين أبناء الشعب، من خلال اكتشاف النماذج الفاضلة وتحفيزها ونشر قيمها على الناس للتواصل إلى حالة اتفاق عام حول القيم الفاضلة والبعد عن الفساد، مؤكدة أن هؤلاء القادة هم من يجب أن يتميزوا ويتقدموا الصفوف.
كما طالبت الدراسة قادة المجتمع الذين يمتلكون اليوم سلطة أن يقدموا نماذج مضيئة على احترام القانون، والتأكيد على مبادئ الشفافية والنزاهة ومحاربة الفساد وشجبه بالفعل لا بالقول فقط.
ووجهت الدراسة نداءً إلى كل أجهزة الدولة من القضاء والشرطة والإعلام وأجهزة الخدمات المختلفة، بأن تكون مستقلة وحيادية وألا تعطى انطباعاً بالتحيز، وألا تعمل على تدعيم ذلك الشعور لدى المواطنين عن طريق تغيير سلوكياتهم وعبر الشفافية فى إعلان الموازنات والتعامل العادل مع الجمهور فى الأماكن العامة والخدمات والعدالة والشفافية فى توزيع فرص الوظائف بعد الإعلان عنها وعدم المساس بفئات معينة واتهامها بالانحراف وفساد الأخلاق فى وسائل الإعلام.
هذه التوصيات كانت وافية بالقدر المعقول وربما لا تحتاج إلى إضافة بقدر ما تحتاج إلى تنبيه وتحذير بأن لا تمر مرور الكرام – كما يحدث في أشياء كثيرة في حياتنا – بل تظل نشطة وحية ومحرضة لكثير من الجهود البحثية والإصلاحية بهدف إصلاح الضمير المصري العام .
لمصدر موقع خيمه